الغُرْبةُ، الثوبُ، الدَّينُ.. ثلاثيةُ وجعِ شيخٍ قرويٍّ

المؤلف: علي بن محمد الرباعي08.19.2025
الغُرْبةُ، الثوبُ، الدَّينُ.. ثلاثيةُ وجعِ شيخٍ قرويٍّ

في زاوية هادئة من القرية، كانت "غربة" تنشر غسيلها الطفيف على حبل مُحكم الربط، طرفه الأول ملتف حول غصن شجرة لوز عتيقة، باسقة الفروع بين فناءين متجاورين. أما الطرف الآخر، فكان مثبتًا بوتد متين في جدار يفصل منزلهم المتواضع عن بيت عمها، ذلك العم الذي هاجر من القرية منذ زمن بعيد. والدها، الحنون والوفي، كان يعتني بمنزل أخيه الغائب، وكأنه لا يزال يعيش فيه، يتفقد السقف خشية تسرب مياه الأمطار الغزيرة في الشتاء القارص، وينظف الساحة بجد، ويطلي باب الخشب ونافذته بمادة القطران الداكنة؛ ليحميهما من أطماع حشرات الأرضة المنهكة. طلبت "غربة" من شقيقتها الصغرى، "عطرة"، أن تناولها مشابك الغسيل الخشبية الصغيرة، لتثبت بها ثوب أبيها الرقيق، الذي أخذت الرياح الشتوية الباردة تعبث به. شمس الضحى الذهبية كانت تتوارى خلف الغيوم الرمادية، تظهر وتختفي مثل وجه حسناء خجولة تخفيه خمارها الرقيق الشفاف. بينما استند الأب المسكين بظهره المتعب على باب زريبة الغنم، وضم كفيه الخشنتين بين فخذيه النحيلتين، وغطى أكتافه وصدره العاريين، بالإضافة إلى جزء من بطنه الملتصقة بظهره، بعباءة صوفية متواضعة وبالية، كان قلقًا بشأن فخذيه العاريتين، خشية أن يراهما أحد المارة. كانت عيناه مثبتتين على ثوبه المتواضع والوحيد، المنشور بين ثياب ابنتيه الرقيقة. نادى الأب بصوته المتهدج: "يا غربة، ثوبي يا ابنتي الحبيبة، ضعيه في مكان آمن، غدًا يوم الجمعة المبارك؛ لا أريده أن يسقط ويتسخ ويجعلني أضحوكة في فم الشامتين الحاسدين." فنظرت إليه "غربة" بعينين تفيضان بالحنان والعطف، وقالت بحب: "والله يا أبي، لو سقط، فسأسعى لإصلاحه ولو اضطررت لكسر ساقي." فترقرقت في عينيه دمعة ساخنة مالحة، لأنه تذكر أمه الغالية التي سقطت العام الماضي من أعلى سطح المنزل، بينما كانت تنشر سنابل الذرة الذهبية لتجفيفها تحت أشعة الشمس الدافئة، وسقطت على وجهها في حوض الطين، وكانت تلك الوقعة القاسية هي النهاية التعيسة لحياتها. استعاد الأب الشريد، وهو يغمض عينيه المثقلتين بالهموم، ذكرياته وتجاربه المؤلمة في الزواج. تذكر كيف اضطر لإنهاء زواجه الأول، بسبب المشاكل والعراقيل التي نفتها من المنزل وجعلتها تكرهه. ثم ابتسم بخفة عندما تذكر زوجته الثانية، وقال بينه وبين نفسه: "الحمد لله الذي خلصني منها، كنت أراها تتودد للجميع، تسلم على كل من يمر بها، وتغازل كل من تراه." ثم تنهد تنهيدة عميقة مصحوبة بتمتمة بمثل قديم مأثور، كي لا تسمعه بناته: "المزارع يحتاج إلى الصحة والعافية، والنساء حظوظ من السماء." ثم أضاف بمرارة: "لا يعوض عنهن إلا بنات فاطمة رضي الله عنها." كانت "أم غربة" قد رحلت عن هذه الدنيا الفانية قبل عيد الأضحى المبارك بليلتين، كانت امرأة صالحة متدينة، حنونة وملاك رحمة يمشي على الأرض. برغم الصخب والضجيج الذي يملأ حياتهم، لم يكن يسمع لها صوت، كانت صوامة قوامة، ماتت وهي حامل بجنينها الذي لم يرى النور، ولكن الله كتب لها أجر الشهادة العظيم، بينما كتب على "أبو غربة" الشقاء والحزن الدائم. كان لديه يقين راسخ بأن هذا الجنين الذي لم يسعد برؤيته (ذكر)، وداهمته هواجس مرعبة بأنه سيخرج من بطن أمه المتوفاة في القبر. ولذا، قضى ليالي طويلة حزينة، يزور المقبرة بعدما ينام الناس، متمنيًا سماع صوته من تحت التراب، وربما يجد ما يرضعه، ويكبر قليلًا، لأن عمره وقت وفاة أمه كان تسعة أشهر. كان يضع خده الأيمن على تراب القبر الرطب، ويستمع إلى الصمت العميق الذي يخيم على المكان، والذي يسميه بعض الأهالي "المجنّة". سأل نفسه بحسرة: "لو عاش، ماذا كنت سأسميه؟" ثم أجاب: "كنت سأسميه (حاضر)، لأن المرحومة كانت دائمًا تتمنى وجوده بجانبها، ولكن بعدما شاء القدر وفقدته وفقدها، سأسميه (غايب)." وأراد أن يخرج من هذه الحالة الحزينة المؤسفة، فطلب من "غربة" أن تحضر له الحناء الذي نقعه في الطاسة منذ الليلة الماضية، ليخضب به شعره الأبيض ولحيته الخفيفة العارية. فردت عليه "غربة" بطاعة: "أبشر يا أبي، دعني أثبت ثوبك أولًا، وسأحضره لك لتتزين وتصبح أجمل من أي شيخ أو فقيه." أقبل عليه "كندوس" بخطوات متثاقلة، وهو يرتدي عباءته الصوفية البالية، كان يفضل رؤية الموت على رؤية وجهه الكريه. وعندما اقترب، بادره بالكلام بوقاحة: "من سمح لك بالجلوس هنا؟" فرد عليه الأب الشريد: "رحب بالضيوف كعادة الناس، فالترحيب نصف الكرم والجود." قال "كندوس" بسخرية: "منذ متى وأنت ترحب بالضيوف أو تكرمهم يا بخيل؟ أنت تعد النقود طوال الوقت، وتتصرف كأنك من النبلاء؛ بينما أجدادك لم يخرجوا من الساحل إلا بملابسهم الرثة." سأله الأب الشريد: "هل تريدني أن أجلس بين القمل وروائح القذارة التي تعمي الطيور؟" فرد عليه "كندوس" بتعال: "ابتعد عن طريقي، فأنت مجرد فلاح بسيط، بينما أنا من عائلة شيوخ." قال له الأب: "هل تريد أن تتفقد حساباتك القديمة، وتقضي ديني الذي عليك؟" فتمعن "كندوس" في وجهه بعينين غائرتين وجفون متدلية، وقال: "لماذا كلما شعرت بالضيق ذكرتني بديني؟" فقال الأب: "سمعت أنك ستعطي (غربة) (شويط المسلول) وأنا لي في ذمتك أحد عشر ألف ريال، نصيحتي لك أن تتزوج ابنتي، وتخلص مني ومنها." فعلق "كندوس" بوقاحة: "لم نشتكِ إليك لا أنا ولا ابنتك، ولم نمد يدنا لطلب المساعدة." فرد عليه الأب: "المطالبة بالحق تضعف قوتك، وتخفض رأسك، وتجعلك مكروهًا بين الناس، اعتق نفسك من الدين ولو اضطررت لبيع ملابسك." فضحك أبو غربة بسخرية وقال: "انظر إلى ثوبي المنشور على حبل الغسيل، إنه أنظف من ثوبك الذي يجعلك تبدو كشخص منبوذ لا يلقى قبولًا." سأله "كندوس": "أخبرني، هل أنت تعرض الزواج أم تساوم؟" فأجابه الأب: "افعل ما يحلو لك." فقبض "كندوس" بيده على ما حوله من غبار وروث حيوانات، ونثره عليه، قائلًا: "صدق أنك أحمق وعديم الفهم، الرجولة تكمن في النفوس والشرف، وليست في المال يا كندوس، ولا يردك إلا جهدك." لم ييأس "كندوس"، وقال: "الكلام أخذ وعطاء؛ سأعطيك أختي، وأعطني ابنتك!" فقال أبو غربة: "يعني تبادل؟" فقال "كندوس": "إذا أردت، سأتنازل عن الدين، ولا أشتكي عليك." فعلق الأب باستياء: "تبًا لك يا رخيص، لو أخذت أختك، ستنجب طفلًا أنت خاله، ومن كنت خاله، فلن يحالفه الحظ أبدًا." فرد عليه "كندوس" بغضب: "أنا؟" قال الأب: "نعم أنت." فوقف "كندوس" وقال بغضب: "تبًا لك، والله إني خير منك ومن عشرة أمثالك." ثم هم بالاعتداء عليه، لكنه تذكر أنه عارٍ تمامًا، فقال: "والله لو كان ثوبي عليّ، لضربتك ضربًا مبرحًا."

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة